الغابة النرويجية!

هاروكي موراكامي + سعيد الغانمي !

 

الأدب اليابانيّ، بابٌ جديدٌ كلياً على مكتبتي.. وأظنه بابٌ قد فُتح ولن يغلق قريباً. تحت رعاية (الأب الروحيّ)، رضخت للمحاولات والاغراءات و المساومات المنعقدة حول اقتراح رواية تصلح للقراءة بشهية منفتحة.. وحصل أن بدأت بالغابة النرويجية .. ذات الـ400 صفحة لأنتهي منها في 4 أو 5 أيام تقريباً (وهذا أمرٌ جيد ولكنه جديد عليّ).!

في البدء، استوقفتني الصفحة الأولى (المفترض أنها اهداء الكاتب او شيء من هذا القبيل).. كُتب عليها بكلّ اختصارٍ.. بكلّ خيالات مُحتجَزة:-

من أجل الكثير من الإحتفالات“.!

قد يميل البعض إلى محاولة النقد واللجوء الى التنقيب عن السلبيات لمجرد انهم لم يتعلموا الا التركيز على الجزء الفارغ من الكأس، فيتعمقون في مقولة أن (الرواية لا تنتمي للأدب الياباني بشيء) حيث أن الغلبة ترجح الى الحياة الغربية!، أو يضربون الفأس في حكاية من لا حكاية له (أقرب للسيرة الذاتية وليست رواية).. حسناً قد أكون متعصبة للأشياء التي أحبها (حين أحبها)!، ولكن الغابة النرويجية! عفواً.. هي (كل مايتمنى المرء ويدركه) في جانب الحكايات الخرافية أو الأسطورية  والسرد المغاير والتحليل والتعمق في الشخصيات التي تفكر بصوت مسموع وأخرى بلا صوت.. هي كل ما يتمنى المرء وسيدركه حين يعطي نفسه الضوء الأخضر في ان يستمتع دون ان يبحث عن الهفوات التي قد لا تتواجد الا حين تتركز طاقاتنا كلها في شأن الحصول على خطأ أو نقص في المادة التي نحمل!

من باب الدعاية والإعلان فإني على يقين، أن هناكَ ماهو ابعد من كلمات واحداث في هذه الرواية، كما لو كانت هناك خطة ثانوية يتبعها موراكامي مع قراءه الذين قد تابعوه سلفاً واستوعبوا كل الطرق والحبكات المخبأة في طيّات كتبه، وأثق أيضاً بأن حجم الغرابة + حجم الاطوار الصادمة نوعاً ما.. وتلك النزعات الطارئة التي رافقت رغبات الشخصيات تجيء طرديّة مع الرسوخ والتجذر في التاريخ والرفوف!. ومن باب اثارة الشهية أيضاً.. فستجدون فيها عمقٌ وغموض بقدر مافيها من سلاسة وبساطة، ستجدون أنفسكم في حالة استنفار ولهفة متصاعدة لمعرفة كل التفاصيل الصغيرة وأدقها عن كل شخص يظهر وأنتم تقلّبون الورق، ستجدون العبارات الغير منطوقة والتفاهم الضمنيّ والكثير من الابتسامات التي تتلو الكثير، ستجدون الحياة والموت بشكل أبسط من التعقيد السائد لدينا، ستجدون مكتبات.. واسطوانات موسيقى.. قد تجدون قاموس لغة التخاطب عبر حركات الجسد وردود أفعاله المتباينة من واتانابي الى ناوكو حتى ميدوري لو تعرّفتم عليهم كما يجب، ستجدون الأطوار الجديدة في التعبير عن الحزن والاكتئاب.. ستجدون المحاولات الغير قابلة للتخمين، ستفكّرون كثيراً.. ستسابقون الوقت.. وستصنعونَ لكم عزلة في غرفكم-أو بيوتكم-.!

أحببت ميدوري بشخصيتها وانفعالاتها المتهورة والعفوية والأقرب إلى صفيقة :] .. أحببت واتنابي بشخصيته الهادئة والمائلة للعاديّة (أو محاولته أن يكون كذلك)، ايضاً أحببت فيهِ العقل والثبات في بعض المواقف العابرة.. من الملفت للانتباه علاقة الثلاثيّ ناوكو مع صديقها كيزوكي الذي بدوره هو الصديق الأوحد تقريباً لواتانابي. المكوث بين أوراق هاروكي وقراءة السّرد كانت من أكثر الأشياء التي توازي ارتشاف القهوة متعة!، أن يصف أحدهم تلك الأشياء الإعتيادية والمستهلكة كالجبل كصوت الرياح.. كمرجٍ عاديّ، أين المتعة؟.. موراكامي يغيّر لكم قناعاتكم يا سادة : ) .

 

استخدمتُ الرصاص كثيراً..

وهنا بعض السبايا:-

(مشهد المرج هو أول شيء يخطر على بالي. رائحة العشب، قشعريرة ريح شاحبة، خط التلال، نباح كلب ما: تلك هي الأشياء الأولى.. وإنها لتأتي بوضوح مطلق. أشعر وكأنني أستطيع بلوغها واقتفاء أثرها بأناملي. ولكن برغم وضوح هذا المشهد، فلم يكن ليظهر فيه أحد. لا أحد!. ناوكو لم تكن هناك.. ولم أكن أنا هناك أيضاً.)

(لكن ذاكرتي تزداد سقوطاً في العتمة، ولقد نسيت عدداً من الأمور. حين أكتب من الذاكرة على هذا النحو، أشعر غالباً بغصة الرهبة. ماذا لو كان مانسيته أهم الأشياء؟ مااذ لو كان في داخلي برزخ مظلم تتراكم فيه الذكريات المهمة حقاً وتتحول ببطء إلى وحول؟.

مهما كان الحال، فهذه هي الطريقة الوحيدة. كابحاً هذه الذكريات الناقصة، الشاحبة، المشحبة في صدري، أستمر في كتابة هذا الكتاب بتوتر يائس لإنسان جائع ينهش عظماً. هذه الطريقة التي أعرفها للحفاظ على الوعد الذي أطلقته لناوكو.)

(يجب أن اكتب الأشياء لكي أحسّ بأنني ألمّ بها تماماً.)

(الموت موجود لا بوصفه نقيضاً للحياة، بل بوصفه جزءا منها… حتى ذلك الوقت كنت أفهم الموت بوصفه شيئاً منفصلاً تماماً ومستقلاً عن الحياة. شعرت ان يد الموت محكومة بأخذنا، لكنها حتى يحين موعد وصولها لنا، تتركنا وحدنا بلا مساس. بدت لي هذه الفكرة حقيقية بسيطة ومنطقية. الحياة هنا والموت هناك. وأنا هنا، ولستُ هناك.)

(كنتُ أعبّر عن أسفي لناوكو حينما اسمع ذلك الصوت. لم تكن ذراعي ماتحتاج إليه، بل ذراع شخص سواي. لم يكن دفئي ماتحتاج إليه، بل دفء شخص آخر سواي. كنت تقريبا أشعر بالذنب لكوني إياي.)

(حاولت أن أتحدث عن هذا الشعور مع ناوكو. وقد فكرت أنها على الأقل ستتمكن من فهم ما اشعر به بدرجة معينة من الدقة. لكني لم استطع العثور على الكلمات المناسبة للتعبير عن نفسي، والغريب ان مرض البحث عن الكلمات المناسبة عندها قد انتقل إليّ بالعدوى على مايبدو.)

(..هذا لا يعني أنني لا أؤمن بالأدب الحديث، لكني لا أريد تضييع الوقت الثمين بقراءة كتاب لم يعمّده الزمن. الحياة قصيرة جداً.)

(أتمنى لو لم أقضِ الليلة بكاملها معهنّ، لكنك لا تستطيع أن تكترث بنواقيس التحريم في منتصف الليل وأنت تحاول إغراء امرأة (فذلك يجري ضد قوانين الطبيعة) وهكذا امضي لقضاء اليل. وهذا يعني تأجيل الأمر إلى الصباح، حيث أعود إلى المهجع، طافحاً بازدراء ذاتي، وفمي مشمع بالرمل، ورأسي ينتمي لشخص آخر سواي).

(..الموتى فقط يبقون في السابعة عشرة إلى الأبد.)

(في يونيو كتبت رسالة أخرى مطولة لناوكو، على عنوان بيتها في كوبي. قلت فيها الأشياء نفسها كالأولى تماما، لكنني في النهاية أضفت: “انتظار جوابك واحد من أكثر الأشياء التي عشتها إيلاماً..”)

(الجنتلمان هو الذي لا يفعل مايريد، بل مايجب أن يفعله).

(“نعم، لست مولعة به كثيراً، لكني أؤمن بأبي. كيف لا أؤمن برجل يتخلى عن بيته، وأبنائه وعمله، ويهرب إلى أورغواي مصدوماً من فقدان زوجته؟ هل ترى ما أقصد؟”)

(كانت التجاعيد تنتمي إلى وجهها، وكأنها كانت جزء من وجهها منذ ميلادها. حين تبتسم، تبتسم التجاعيد معها؛ وحين تعبس، تعبس التجاعيد أيضاً. وحين لا تبتسم ولا تعبس، تظل التجاعيد متفرقة في وجهها على نحو ساخر دافئ بطريقة غريبة.)

(وجدت ألبوم “بل إيفانز” في خزانة الكتب، واستمعت له. حين كنت اجفف شعري، تبينت أنه الشريط الذي شغلته في غرفة ناوكو ليلة عيد ميلادها، تلك الليلة التي بكت فيها فأخذتها بين ذراعيّ. لم يمرّ على ذلك سوى ستة شهور، لكنني شعرت بأنه حدثُ ينتمي إلى ماش أبعد بكثير. ربما تراءى لي ذلك لأنني فكرت فيه كثيراً، كثيراً جداً، إلى حد أنه شوّه إحساسي بالزمن.)

(حين يروي الناس كذبة عن شيء ما، فعليهم أن يختلقوا اكواماً من الأكاذيب الأخرى التي تتماشى مع الأولى. يسمى هذا علمياً “النزوع إلى تلفيق الأساطير-ميثومونيا”، وحين يروي أحد النازعين إلى تلفيق الأساطير كذبة، فهي في العادة من النوع البريء.)

(كل مانفعله هو ان نقول لبعضنا الأشياء الاخرى التي لا يمكن أن تقولها كتلتا لحم ناقصتان لبعضهما إلا اختلاساً. وبفعلنا هذا نشترك في نقصنا).

الكاتب الأول + المترجم الأخير صنعا لنا كتاباً من الطراز الفخم والأسطوريّ. خُلق لنا كتاباً “تحديداً رواية” من النوع الذي يثير الهرش في أصابعك حتى تدخل في سباق مع  الزمن لاتمام القراءة في وقتٍ قياسي مقارنة مع قدراتك السابقة!. منذ زمنٍ قديم و منذ دهرٍ بعيد وأنا أفتقد كتباً قيّمة.. كتلك التي تُقرأ أكثر من مرة، وفي كل مرة تبقى مغلفة بأوراقِ سوليفان.. لامعة جديدة، ومغرية أكثر.!

 

أخيراً.. قراءة شهيّة أتمناها لكم (F)

 

رد واحد to “الغابة النرويجية!”

  1. كافكا على الشاطئ ينتظرك .. Says:

    إئتلاق نجمة تشع خارج المدار .. وقد شبت عن الطوق .. لم يكن رهاني خاسراً حين أرسلتك للجزر المسحورة .. فهيهات العودة .. أنتي في فلك الأفلاك .. حيث الجنون نافذة مشرعة ..

أضف تعليق