تفاهات..

منذُ أن مررتُ بِ اوّل تجارب الفقد الحقيقية.. لا ادري مالذي تغيّر بي، ولا أفهمُ شيئا من الجنون الذي يقتحمُ الكون من حولي! أقربُ مايصلُ لهُ العقل لوصف تلك الحالة، كأن حقيبة سفر ضخمة محمّلة بمعادن ثقيلة قد سقطت على اصبع قدمي الصغير، بترته، شوّهت قدمي -وأنا التي أُذعرُ من أن يتشوه شيءٌ بي- و أعاقت حركتي وتوازني مع المحيطين بي!

رغم جهلي الواسع في الطب.. أنا أجزمُ بأن هرموناتي قد أصابها صدع أو شرخٌ ما، فقد اختلّت عاداتي بشكل مزعج، أصبح كل شيء يثيرُ بي حالة حنق وتبرّم في كل ساعة من كل يوم! القهوة أصبحت السائل الأول والشبه وحيد الذي أعيش عليه (رغم أنها المشروب المفضل لدى الكثير من المفكرين والأدباء، الا أنها معي كانت تعملُ عكسَ العادة..أعني أنها أصابتني بكثيرٍ من البلادة!)، ومؤخرا للأسف بعض سلبياتها قد بدأت تطرأ على معدتي منذ فترة قريبة. أصبحتُ لا أجدُ أي حماسةٍ اتجاه أيّ من الأشياء التي كانت تُثيرُ شغفي و تعلّقي في الحياة، أجدُ الكثير من (اللاجدوى) في كل شيء من تفاصيل حياتي، ولعل أقرب بورتريه سيشي بملامحي أن تمثلني تلك الزاهدة المتعففة عن كل متع الدنيا المشتعلة من حولها!

تصيّرتُ تلك الشخصية المزعجة، لا أطيقُ أحداً.. و (أحداً) لا يطيقُ معي صبراً. ردود أفعالي باتت أكثر حدّةً و خِسّة، يحاصرني دائماً قلقُ الخطأ أو أن يُكتشف خطأي، الملل.. و لمن لم يعرفني قبل تلك الحقبة يخالهُ جزءٌ أصيل بداخلي. حين أستثني مقرّ العمل، فأنا فعلا لا أستطيع أن أكمل ساعتين متواصلتين مع ذات الاشخاص او في ذات المكان، “كأن الهروب من الأشياء يريحني من قضيّة هروبها منّي”.. أمارسُ الكثير من روتينياتي المعهودة ولكن بشكلٍ أكثر تعقيداً.. أعني بأنني مازلتُ أقرا مثلا.. ولكن في أكثر الأماكنِ ازدحاماً خارج المنزل، أو في أغربها (كالقراءة على درجاتِ سلّم)!

الركض.. كان أكثر الممارسات التي أكرهها مثلاً.. فمنذ زمنٍ عتيد لم تطرأ هذه الفكرة في رأسي ولم يشتعلُ ضوءها حتى اللحظة !، يجيءُ في خيالاتي هذه الأيام أن أركض.. في الجوفِ نزعةٌ ملحّة للركض.. أن أركض إلى مكانٍ بعيدٍ لا يعرفه أحد، اركضُ إلى العدم .. إلى الـ لاوصول.. إلى التّعبِ والشهيقِ المتزاحم .. واحتراقاتُ الجسد المتعرّق.. إلى مجالٍ اوسعُ من الدنيا.. أشسعُ من السّماء.. أبعدُ من بلوتو عن كوكبنا.. مجالٌ تنعدمُ فيهِ الحناجِر.. يصلحُ لِ الصّراخ ربّما ..!

فجزءٌ قصيّ.. يحاول الرّكضَ بعيداً عن كل الأشياء الطارئة.. عن الحقائق.. عن الوسائد الموجوعةِ.. عن الدّموع المتيبّسة في وجهٍ مصدوم.. عن نبرات الهلعِ في الحنجرةِ المفجوعة تواً.. عن صوتٌ داخليّ يأتي بكلماتٍ ليست في مستوى استيعاب عقلي او احتمال أعصابي.!

لا أدري لماذا أفضحُ حجم التفاهات التي تحيط بي! كل ما أعرفه أنني صرّة محشوة بأكبر من قدرتها، وأن هنا ثقبٌ يغريني لأتخفف من سخافاتي! فشكرًا لانصاتكم..

رد واحد to “تفاهات..”

  1. لبنى أحمد نور Says:

    سرّني الإنصات، وأحزنني!

أضف تعليق